دبي

دبي: تاريخ مدينة المستقبل

دبي: تاريخ مدينة المستقبل

اكتسبت دبي شهرةً عالميةً واسعةً كأبرز المدن التي تواصل تسجيل الأرقام القياسية منذ بضع سنوات. وتم تقديم الإمارة، التي أطلقت ألف مجلة متنوعة، إلى العالم الغربي بوصفها مدينةً عالميةً تتمتع بأفق متطور، فأسرت العالم بما لديها من ناطحات سحاب حطمت الأرقام القياسية الدولية، فضلاً عن منحدرات التزلج ضمن الصالات، والتنوع السكاني المذهل الذي يميز ثقافة المكان. ومع بلوغ نسبة المقيمين الأجانب فيها عتبة 96% من إجمالي السكان؛ تغرّد دبي وحيدةً في طليعة المدن ذات الثقافات المتنوعة بفارق كبير حتى عن مدينة نيويورك، التي يبلغ فيها معدل الحضور الأجنبي 37%. وفي الوقت الراهن، بدأ أفق مدينة دبي الذي لطالما أطلق عليه “مانهاتن الشرق الأوسط” برسم صورته المتفرّدة مع مناظر وخلفيات بصرية دائمة التغير بسرعة قياسية نتيجةً لمشاريع البناء المستمرة، وناطحات السحاب البديعة التي تتحدى في أبعادها قوانين البناء، إضافة إلى الاستثمارات الخيالية في البنى التحتية السياحية.

وقد أثار تحول دبي من قرية صيد تقليدية إلى مركز عالمي للأعمال إعجاباً عالمياً ونال تقديراً دولياً، وذلك بفضل ما تتمتع به المدينة من ابتكار وسرعة نمو وديناميكية عملية لا نظير لها، إذ تمثل الإمارة الدليل الأوضح والأقوى على تطور فنون العمارة العالمية. ففي مطلع خمسينات القرن الماضي كان اقتصاد البلاد ما يزال قائماً على صيد الأسماك واللآلئ من أعماق البحر، وعكست المستوطنات الحضرية الأساسية في المكان الأنماط الاقتصادية والاجتماعية السائدة في تلك الفترة والتي برزت في مجموعة المنازل العائلية المنتشرة على طول الشريط الساحلي. إلا أن عمارة المدينة وصلت في العصر الحالي إلى منعطفٍ تسجل فيه انتقالاً تدريجياً من فخامة البناء الصارخة إلى بساطة التفاصيل الصديقة للبيئة، ومن الهيبة المتكلّفة إلى المقاربات اللطيفة.

وبالعودة إلى الفترة من أواخر الستينيات وحتى معظم سبعينيات القرن العشرين، برزت العمارة التقليدية الساحرة في دبي مع أزقتها الضيقة وأبراج الرياح التي عكست التراث البدوي لحضارة المنطقة. وشكّلت دبي في تلك الحقبة ميناءً بحرياً يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على التجارة. وفي أواخر السبعينيات وحتى مطلع الثمانينيات، اتّسمت الصورة النمطية للمدينة بالطابع المعماري البسيط للأبنية منخفضة الارتفاع، والتي كوّنت الشكل العام لمنازل آلاف السكان من المنطقة والوافدين من شبه القارة الهندية. ومع افتتاح مركز دبي التجاري العالمي عام 1979، بدا البناء بعيداً جداً عن مركز المدينة. ولكن المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم (طيب الله ثراه)، عكس رؤيةً منهجيةً حين طلب من المهندس المعماري البريطاني جون هاريس قيادة المشروع. وهكذا نجح المركز التجاري في تشجيع المدينة على التوسع وساهم التصميم الأنيق للعمارة الخرسانية العصرية في دفع المدينة نحو التطور. ويمكن أن نجد رسماً لهذا البناء العريق على الجانب الخلفي من العملة الإماراتية من فئة 100 درهم حتى يومنا هذا.

وقد شكّل مركز دبي التجاري العالمي أول الأبراج الشاهقة التي بدأت بالانتشار على امتداد الطرق الحيوية في المدينة، وأضحى تصميمه النموذج المفضل لبعض الشركات متعددة الجنسيات والشركات الكبرى المحلية لتؤسس مكاتباً لها في هذا المكان؛ ما أدى إلى نشوء ما يسمى عصر الأبراج الزجاجية مع نمو المدينة في ثمانينيات القرن الفائت. وكما قال جورج كاتودريتس، أستاذ الهندسة المعمارية لدى الجامعة الأمريكية بالشارقة، في كتابه بعنوان UAE and the Gulf: Architecture and Urbanism Now:  “منذ فترة الثمانينيات من القرن العشرين، تم استخدام الجدران الزجاجية على نطاق واسع في تصميم معظم الأبراج التجارية والأبنية المطلة على آفاق المدن في الخليج العربي، فبدت النماذج المعمارية متشابهة إلى حد بعيد. وفي ذلك الوقت، لم يكن مفهوم الاهتمام بالأداء البيئي والابتكار قد نشأ بعد”.

ومع ذلك، شهدت المنطقة ثورة معمارية مع افتتاح “برج العرب” عام 1999. وقد حافظ هذا الفندق الحصري على صورته حتى يومنا هذا بوصفه أول الرموز والإيقونات المعمارية التي تدلّ على وصول دبي إلى الساحة الدولية ويؤكّد رؤيتها العالمية للمستقبل. وسرعان ما تبع ذلك إطلاق العديد من الصروح المعمارية الفريدة أبرزها “أبراج الإمارات” التي أبدعتها المهندسة المعمارية الشهيرة هازل وونج، ما حفّز على تنشيط قطاع العقارات بشكل مكثّف على مدى عقدٍ من الزمن شهد افتتاح مجموعة من المشاريع المتميزة أمثال “نخلة جميرا” (والتي غيرت خارطة دبي بكل معنى الكلمة) ومرسى دبي. وفي العام 2010، جاء إطلاق “برج خليفة”، الصرح المعماري الأطول في العالم، كدليل على الإعجاز الهندسي في العصر الحديث.

وفي السنوات اللاحقة، اتسع نطاق تأثير العمارة لابتكار روابط عبر قطاع التصميم في دبي. وبدورها اختبرت الشركات المحلية بالتعاون مع نخبة من المصممين الأوروبيين صياغات جديدة من فنون العمارة بما فيها المنازل الفاخرة منخفضة الارتفاع ضمن هياكل تطفو فوق سطح الماء. وأدى نشوء المجتمعات الشغوفة بالتجوال المدنيّ والمشاريع الصديقة للبيئة إلى تعزيز سمعة دبي كمدينة متجددة تعيد ابتكار نفسها باستمرار.

وأعتقد انطلاقا من كوني مهندساً معمارياً أن تخيّل الناس لمدينة المستقبل يرسم مشهداً لبيئةٍ سريعة الخطى مفعمة بأنماط التفكير المنفتح على خلفية تحفل بناطحات السحاب وأماكن التجوال المدنيّة والأبراج المتميزة. ولكن دبي تعيش المستقبل اليوم. ويرسم الوقت الراهن نقطة الانطلاق لمواصلة الابتكار وكسر مجموعة جديدة من التقاليد لإلهام العالم.

وفي الوقت الذي تواصل فيه دبي ارتباطها الوثيق بمفردات الرفاهية، يزداد التوجه نحو البيئات المستدامة المتكاملة بما يعكس التحول في مفاهيم المستهلكين والقطاع ككل حول العصر الجديد لتصميم المدن. واليوم، نجد العديد من مهندسي العمارة ومصممي الديكورات الداخلية في المنطقة يختارون بشكل متزايد مواد جرت إعادة تدويرها لابتكار تصاميم متطورة، وتبرز أرضيات الفينيل والحجارة المعاد تشكيلها والمفروشات المصنوعة من مواد تنجيد رائدة تم استيرادها وفق مبدأ التجارة النزيهة.

لا نخفي رغبتنا بتحقيق أرقام عالمية جديدة في مدينة دبي كما حدث في العام 2013، عندما أدرج “المجلس الأمريكي للأبنية الخضراء” إحدى مخازن دبي المكونة من طابقين والمتخصصة ببيع منتجات صديقة للبيئة كأكثر الأبنية استدامةً في العالم.

واليوم، تمتلك الهندسة المعمارية نظرةً أكثر شموليةً مقارنةً مع فترة الثمانينات من القرن المنصرم، وقد ساهمت التأثيرات الجمالية التي أضافها التنوع الثقافي للجاليات العالمية على التصميم العام للمدينة في تعزيز جاذبية دبي، وأرست مزيجاً إبداعياً جمع بين الأفكار العالمية والتجارب المحلية.

وانطلاقاً من النشاط الاستثنائي للاستثمارات العقارية ضمن الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، يبدو من الطبيعي أن تحظى الدولتين بأكبر أسواق التصميم وأكثرها حيويةً في منطقة الشرق الأوسط، ومن المتوقع أن تشكّل مجالات العمارة والديكورات الداخلية والأزياء نسبة 90% من معدلات النمو في قطاع التصميم، وتُعدّ مهنة العمارة والتصميم الداخلي من أكثر الوظائف تفضيلاً في المنطقة خلال العصر الحديث.

كما أشارت الأبحاث التي أجراها محللو السوق مؤخراً إلى ارتفاع الإنفاق على مشاريع التجهيز والتصميمات الداخلية خلال العام الحالي إلى 17.7 مليار دولار مقارنةً مع 15.5 مليار دولار في العام الماضي. وعزت الدراسة السبب إلى الابتكارات المستمرة في عالم التصميم إضافةً إلى التغير المستمر بالتفضيلات الشخصية. ومع كل هذا النمو، تمثّل دبي واحدةً من أبرز المدن التي يفضّلها خبراء التصميم ممن ينشدون تطوير مسيرتهم المهنية.

Click to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

To Top