فلسطين

الثلاسيميا وباء يتهدد المنطقة العربية- بإلامكان التصدي له

الثلاسيميا

وباء يتهدد المنطقة العربية- بإلامكان التصدي له

الثلاسيميا- هو مرض وراثي يصيب خضاب الدم الموجودة داخل كريات الدم الحمراء ملحقا خللا في تكوينه, مما يؤدي الى تكسركريات الدم الحمراء و موتها المبكر. من المعلوم ان كريات الدم الحمراء تعيش داخل اجسادنا فترة تصل الى مائة و عشرون يوما, ولكن في حالة مرض الثلاسيميا العظمى لا يتعدى عمر تلك الكريات بضعة ايام الى بضعة اسابيع الامر الذي يتسبب في حالة فقر دم شديدة و مزمنة لا ينقذ المريضى منها الا اخذه جرعات دم و بشكل منتظم و طوال العمر.

لم يتوصل العلماء الى سبب نشوء هذه الظاهرة المرضية و تركزها في مناطق جغرافية معينة بضمنها المنطقة العربية رغم وجود تفاسيير تحاول الاجابة على هذا السؤال. و اللافت في امر هذا المرض انتشاره في المنطقة الممتدة في منطقة البحر الابيض المتوسط مما يجعل الدول العربية موبوءة بهذا المرض, كما و تنتشر الثلاسيميا في الباكستان و الهند و دول جنوب شرق اسيا, و في عصر سهولة المواصلات و انتقال الافراد والهجرات فإن المرض آخذ في الانتشار خارج مناطق تواجده التاريخية الى كافة انحاء العالم.

كيف ينشأ مرض الثلاسيميا؟ بلغة بسيطة: من المعروف ان الانسان يتمتع بنسخة من المادة الوراثية مكونة من ستة و اربعين كروموسوما يتلقاها مناصفة من كل من الام و الاب. و هذه المورثات تتحكم بكافة الصفات التي نتمتع بها- بدءا من الطول الى لون الشعر الى فصيلة الدم و غيرها من الاف الصفات التي نرثها من آبائنا و امهاتنا, و خضاب الدم مثل باقي الصفات الوراثية يتلقى الانسان مورثاتها مناصفة من جهة الام والاب. و اللطيف في امر الثلاسيميا ان نشوء المرض مرتبط بتلقي الانسان مورث خضاب دم معتل من جهة الام و كذلك مورثا معتلا من جهة الاب. اذ لا يكفي حمل كروموسوم واحد معتل للاصابة بالمرض. وفي غالب الحالات فإن كل من الام و الاب لا يظهر عليهما اي اعراض مرضية بسبب وجود مورث معتل واحد لدى كل منهما. يوضح الرسم المرفق احتمالات الاصابة بالمرض لدى ابوين يحمل كل منهما صفة مرض الثلاسيميا وفقا لقوانين الوراثة و التي تصل الى 25% لكل حالة حمل (الرسم التوضيحي رقم 1).

لماذا يتهدد مرض الثلاسيميا المنطقة العربية؟ تشير الدراسات الى ان صفة مرض الثلاسيميا الوراثية منتشرة في المجتمعات العربية بنسب تتراوح بين 3-4 %. اي ان من بين كل مائة مواطن هناك 3-4 مواطنين يحملون صفة الثلاسيميا الوراثية. و كما سبقت الاشارة فإن حمل الانسان لمورث واحد معتل للثلاسيميا لا تعني الاصابة بالمرض كما و لا يعاني الانسان من اي اعراض مرضية. على ان و في حال زواجه ممن يحمل ايضا صفة الثلاسيميا الوراثية وفقا للرسم التوضيحي اعلاه- تظهر الاصابة لدى الابناء او عدد منهم. و الحقيقة ان هذه المعلومة الهامة تمثل حجر الاساس في حملات مكافحة انتشار المرض. فإذا اطمأننا الى عدم حمل احد الابوين على الاقل لصفة الثلاسيميا الوراثية فإن ذلك يمثل ضمانا عمليا لعدم ولادة الطفل المريض حتى لو كان الاب الاخر يحمل هذه الصفة (الرسم التوضيحي رقم 2).

ان جهود الجهات الصحية المختلفة المعنية بمكافحة انتشار مرض الثلاسيميا منصب على تحقيق هذا الهدف وقد سنت دول عديدة انظمة و قوانين تحول دون زواج حاملي صفة مرض الثلاسيميا بعضهم من بعض.

والان ما هي اعراض مرض الثلاسيميا؟ كثيرا ما كنا نتلقى اسئلة في نهاية المحاضرات واللقاءات التوعوية حول طبيعة المرض والتي تتلخص في حالة من فقر الدم الشديدة تبدأ في حالات الثلاسيميا المعروفة بنوع بيتا في السنة الاولى من عمر الطفل وفي نوع الفا ثلاسيميا منذ لحظة الولادة. و الصحيح ان اعراض فقر الدم الحادة لدى طفل رضيع او وليد امر غير مألوف كما و لاتوجد اعراض محددة تشير اليه سوى الاعراض العامة لفقر الدم من الهزال و الشحوب وعدم الاستقرار اضافة الى الضعف العام و عدم الاقبال على الرضاعة, و هذه الاعراض بمجملها هي اعراض عامة تدفع بالام الى طلب المساعدة الطبية التخصصية, ولدى اجراء فحص الدم البسيط المعروف اختصارا بعدّ الدم الكامل (CBC) تتضح صورة فقر دم حادة يعاني منها ذلك الطفل لتبدأ بعدها رحلة غير طويلة لتشخيص الاصابة بمرض الثلاسيميا من بين عدد كبير من الامراض المسببة لفقر الدم الحادة.

حتى سنوات قليلة خلت كان الاصابة بمرض الثلاسيميا تعني معاناة المريض لسنوات تنتهي بالوفاة جراء حالة فقر الدم الحادة والتي لا ينفع معها العلاج بمركبات الحديد. و مع اكتشاف زمر الدم تغيرت الصورة بشكل ملموس حيث اعتاد الاطباء على تزويد المريض بوحدات دم بشكل منتظم و تزويده بأدوية طاردة لفائض الحديد المتراكم في انسجة جسمه جراء تلقيه وحدات الدم شهريا. لقد ادى ذلك الاكتشاف الى احداث ثورة حقيقية في واقع مريض الثلاسيميا للتعايش مع هذا المرض, بعد ان كان مرضا قاتلا لا يمكن النجاة منه.

اضافة الى تلقي وحدات الدم شهريا و الادوية المساعدة, فإن المريض بحاجة الى متابعات طبية تخصصية اضافة الى الدعم النفسي و الاجتماعي.

عمليات زراعة نقي العظم

توفر هذه التقنية فرصة (حال نجاحها) لتشافي المريض و بشكل نهائي من مرض الثلاسيميا مع ما يرافق عمليات زراعة الاعضاء من متابعات تخصصية. ان عمليات زراعة نقي تقتضي جملة امور اهمها توفر المتبرع الملائم اضافة الى تمتع المريض بوضع صحي مناسب للافادة من هذه العملية المعقدة الى جانب توفر التمويل المالي. و تنتشر العديد من المراكز التخصصية لاجراء هذا النوع من العمليات في العديد من الدول العربية.

لماذا الاهتمام بهذا المرض؟؟

الصحيح ان الاهتمام بمرض الثلاسيميا ناشئ عن جملة حقائق اهمها امكانية الحد من الاصابة بالمرض في صفوف الابناء اضافة الى الكلفة الهائلة لعلاج المريض الواحد حيث تصل الى 20-25 الف دولار سنويا, و عليه فإن كلفة العلاج للمريض الواحد لعشر سنوات تصل الى ربع مليون دولار و اذا احتسبناها لعشرين عاما فإن الكلفة تصل الى نصف مليون دولار و هو مبلغ هائل يفوق قدرات و ميزانيات وزارات الصحة في الدول. في حين ان كلفة الكشف عن حاملي صفة الثلاسيميا الوراثية وتنفيذ برامج التوعية و التثقيف لن تصل كلفتها الى اجزاء من كلفة العلاج. ان “الاستثمار” في مجال الوقاية من الاصابة بمرض الثلاسيميا هو نموذج واضح لجدوى مثل هذا النوع من “الاستثمارات”. و تشير دراسات جمعية اصدقاء مرضى الثلاسيميا الى ان السياسات المتبعة و الانخفاض في اعداد المرضى الجدد منذ عام 2002 قد حال دون ولادة 750 حالة مرضية جديدة تبلغ كلفة رعايتها على مدى عشرين عاما افتراضيا يعيشها المريض الواحد مبلغا يتراوح بين 150-200 مليون دولار. مع ملاحظة ان تلك الارقام تم احتسابها بتحفظ على اساس كلفة الرعاية الصحية الحالية وانطلاقا من اعداد المرضى المواليد الجدد السنوي قبل عام 2000, و وفقا لمتوسط عمر المريض في فلسطين اليوم. ان تقديرانا الى ان قيمة ما تم توفيره يتجاوز ما اوردناه (150-200 مليون دولار) بمراحل, انطلاقا من الارتفاع المستمر في كلفة العلاج, اضافة الى الازدياد المستمر في متوسط اعمار المرضى.

لقد نشطت العديد من الجميعات الاهلية للتصدي لهذا المرض منذ سنوات عدة, كما و تأسس اتحاد عالمي للجمعيات الناشطة في هذا المجال مقره قبرص. و قد تأسست جمعية اصدقاء مرضى الثلاسيميا في فلسطين عام 1996 . حيث ضعت الجمعية هدفين اساسيين نصب عينيها: الاول الحد من انتشار مرض الثلاسيميا في صفوف الاجيال القادمة, اضافة الى توفير رعاية صحية افضل للمرضى. يبلغ عدد مرضى الثلاسيميا في مناطق السلطة الفلسطينية قرابة الثمانمائة و خمسين مريضا. وقد نجحت الجمعية في ادراج فقرات في المنهاج التعليمي الفلسطيني عام 1999 تتناول التعريف بالمرض و سبل الوقاية منه. في عام 2000 تم اصدار تعليمات ملزمة تلزم احد الخاطبين على الاقل ابراز نتيجة مخبرية تشير الى عدم حمله صفة الثلاسيميا الوراثية, كما و نظمت الجمعية الاف المحاضرات و اللقاءات التوعية والمحاضرات و النشاطات الهادفة الى نشر الوعي و المعرفة في المجتمع. لقد ادت جملة الاجراءات و خاصة الفحص المخبري قبل الزواج الى تراجع حاد في اعداد المرضى الجدد منذ عام 2002. وقد عززت تلك النجاحات تبني جميعية اصدقاء مرضى الثلاسيميا في فلسطين خطة طموحة عام 2009 خلال مؤتمرها الوطني الثالث في بيت لحم لاعلان عام 2013 ليكون العام الاخير الذي يشهد ولادة مرضى جدد مصابين بمرض الثلاسيميا. وقد تم بحمد الله تحقيق ذلك الهدف مما اهَّلَ الجمعية لنيل جائزة الشيخ سلطان آل نهيان لفئة الجمعيات تقديرا لدورها في تحقيق هذا الهدف في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. وفي المقابل حققت الجمعية نجاحات فيما يتعلق بجودة و مستوى الخدمات العلاجية الشمولية المقدمة للمريض. و قد قفز متوسط اعمار مرضى عام 1996 من ثماني سنوات ليصل اليوم الى قرابة العشرين عاما و الحمد لله.

ان تلك النجاحات التي تم تحقيقها في المجتمع الفلسطيني و العديد من المجتمعات العربية الاقليمية صاحبها بروز تحديات من نوع جديد. لم يعد توفير وحدة الدم المناسبة الشاغل الاول للجمعيات الاهالي, كما و لم يعد توفر الدواء همهم الوحيد. لقد اصبح توفير خدمات ذات جودة و شمولية العلاج و الدعم النفسي والمجتمعي هي الشاغل الاهم. كما واصبح البحث عن فرص تعليميه و منح دراسية هدفا جديدا للنشاطين و الداعمين, وغدا البحث عن فرص عمل مناسبة هو حديث الخريجين من المرضى الذين ارتفعت اعدادهم لتصل الى مائة مريض في فلسطين و في مختلف الاختصاصات. كما واصبح بحث الشاب و الشابة عن شريك حياته و تأسيس الاسرة موضوعا يوميا لمجموعة الشباب و الشابات الذين اسسوا المجلس الشبابي ليتناول همومهم بعيدا عن الجمعية و نظرتها لمشكلة الثلاسيميا.

لقد جاءت انتخابات الدورتين الاخيرة مطلع عام 2018 و سابقتها عام 2014 لتشكل علامة فارقة حيث و لاول مرة يشارك المرضى في الهئية الادارية و ليتكلم المريض بلسانه و ليس من خلال الاخرين عن همومه و احتياجاته مخاطبا المجتمع بتلك الاحتياجات اضافة الى حمله رسالة التوعية و التثقيف بلغة المجرب و ليس بلغة الطب والاطباء.

ان مريض الثلاسيميا والذي يفتح عيناه على معاناة ممتدة طوال حياته, يتمتع بنضج و شجاعة و وقدرة على تحدي الصعاب تؤهله لحمل رسالة التوعية والتثقيف. كما و ان مريض الثلاسيميا يمكنه ايصال كلماته بلغة اكثر وقعا على السامع من لغة العلم المجرد و تتمثل احتياجاته في فهم المجتمع له و لخصوصية وضعه.

وبعد لقد قطعت جمعية اصدقاء مرضى الثلاسيميا  في فلسطين ومعها العديد من الجمعيات العربية والاقليمية مسيرة مرموقة في التصدي لاخطار مرض يمكن تصنيفه على انه مرض قابل للاستأصال وليس قدرا لا مفر منه. كما وتستفيد الجمعيات العربية من خبرات بعضها البعض بحكم انضوائها ضمن الاتحاد العالمي لجمعيات الثلاسيميا في قبرص. كما وتسعى الجمعيات لتوفير مستقبل آمن لاجيالنا القادمة بعيدا عن اخطار مرض بالامكان التخلص من ويلاته من خلال وعي الشباب والشابات والتزامهم بإجراء الفحوصات المخبرية والحصول على المشورة التخصصية بهذا الشأن, متمنين لاجيالنا القادمة حياة آمنة و بعيدة عن اخطار مرض الثلاسيميا و غيره من الامراض.

د. بشار عدنان الكرمي
اختصاصي علم الامراض السريرية
رئيس جمعية اصدقاء مرضى الثلاسيميا- فلسطين
مدير عام مختبرات ميديكير- فلسطين
Click to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

To Top