هل استطاعت الكورونا أن تؤنسن التعليم؟
بقلم د.سائدة عفونة – عميدة كلية التربية وإعداد المعلمين – مديرة مركز التعلم الالكتروني – جامعة النجاح الوطنية
فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة استحكم بالعالم وغير كل المجريات اليومية والممارسات الإنسانية في جميع أنحاء هذا الكون. تفهمت أن الوباء استطاع أن يغير الممارسات الصحية والاجتماعية للناس على هذه الأرض، ولكن استوقفني قدرته على الرغم من ضآلة حجمه أن يغير فلسفة التعليم في كل أنحاء المعمورة وفي كل المؤسسات التربوية والتعليمية .
بادرت جميع المؤسسات لإغلاق المدارس والجامعات مع استمرار العملية التعليمية التعلمية ولكن عن بعد، تم البدء بإنتاج الدروس المصورة، والفيدوهات التعليمية، وتنزيل البرامج الالكترونية، وتحديث الأنظمة الإلكترونية التعليمية وفتح قواعد البيانات المجانية، وإرسال الرسائل القصيرة التعليمية، وفتح المجموعات الفيسبوكيه. أصبح هنالك تحول في الاستخدام لجميع وسائل وأدوات التكنولوجيا العصرية من استهلاك رديء واستخدام سلبي، وتواصل غير اجتماعي إلى إنتاج معرفي وتواصل تربوي، وتخطيط استراتيجي.
الأسابيع القليلة الماضية شكلت حالة من التحول الملحوظ في العلاقة بين المعلم والمتعلم، فكان على المعلم الآن أن يتعلم كيف يعلم الكترونياً ليس فقط استجابة لسياسة المؤسسات التعليمية وإنما لإحساس داخلي بالمسؤولية المحتمعية نحو طلبته وتجسيداً لإنسانيته المعهودة. وأصبح يقضي جل وقته ما بين التعلم والتعليم، وتداخلت أسرته في البيت مع أسرته في المدرسة ومع أسر طلبته، فأصبح الطلبة يسمعون صوت أطفاله وهو يسمع صوت عائلاتهم وجميعهم يسمعون صوت باعة الطرق أو زوامير السيارات أو رنات التلفونات.
جو عائلي بامتياز فكل في بيته يجدول مواعيده بناء على إمكانياته واحتياجات طلبته، يشربون القهوة والشاي أثناء اللقاء الصفي المحوسب، ويسألون عن أحوال بعضهم البعض الصحية ويتناقلون الأخبار عن الوضع الصحي العام، وينصحون بعضهم البعض بالتزام البيوت والإمتثال للتعليمات. تعليم بصبغة اجتماعية طغت عليه النظرية البنائية بعد أن كانت النظرية السلوكية تسيطر عليه لسنوات عجاف، ومن ثم انتصرت النظرية التواصلية في التعليم على كل النظريات السابقة. تغيرت الأدوار فالمعلم يستعين بالمتعلم الأكثر حظاً تكنولوجياً، ويمتثل لاحتياجات طلبته الأقل حظاً مادياً.
أصبح التعلم المصغر هو أساس التعليم فمعظم الفيديوهات التعليمية لا تتجاوز الدقائق، وينطلق المعلم والمتعلمين في جولة نقاشية تفاعلية يكون بطلها المتعلم أو المفهوم التعليمي، ومن الجدي بالذكر هنا أن محاولات عديدة باءت بالفشل خلال السنين السابقة لنشر هذه الفلسفة وتعميمها، ولكن الفيروس فتح لها باباً من السماء فالحاجة أم الاختراع كما يقولون ولا يمكن إرغام المعلم على شيء ما لم يقتنع به أو يجربه بنفسه وهذا ما حدث بالفعل. وانتشرت ظاهرة أنسنة التعليم بسرعة أكثر من انتشار فايروس كورونا فهي معدية بامتياز ولا طعم لها.
أنتظر بفارغ الصبر أن تنتهي هذه الأزمة، وأن ينحدر فايروس كورونا ويكون الجميع بصحة وعافية، وأن تنتقل عدوى أنسنة التعليم إلى النظام التربوي النظامي في كل مؤسساتنا التعليمية والتربوية، وأن لا تعود ريما لعادتها القديمة بالتلقين والتعلم للإمتحان. فالتعليم هو رسالة إنسانية سماوية قبل أن يكون مهنة مأجورة.