تكلفة الصحة النفسية
Byسيد كاشف كمال حقي
فوربس الشرق الأوسط: تُعد التكلفة العالمية لحالات الصحة النفسية باهظة، إذ تقدر خسائر الإنتاجية بسبب الاكتئاب والقلق وحدهما بنحو تريليون دولار سنويًا وفقًا لشركة برايس ووترهاوس كوبرز.
ومع استمرار التنمية الاقتصادية السريعة، تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تهديدًا خفيًا من شأنه أن يقوض تقدمها يتمثل في ازدياد عبء الأمراض النفسية.
وفي هذا الصدد، أبرز تقرير صادر عن شركة ديلويت العام الماضي أنه في أعقاب جائحة كوفيد-19، وبينما تستثمر بعض المنظمات موارد كبيرة تُقدر بمعدل 11 مليون دولار سنويًا للشركات التي تضم أكثر من 20 ألف موظف، لمعالجة قضايا رفاهية القوى العاملة، لا تحقق هذه الاستثمارات النتائج المرجوة.
وأكد التقرير أنه يتعين على المنظمات معالجة الأسباب الجذرية المتعلقة بسلوكيات القيادة على كافة المستويات، وهيكلة الوظائف، وطرق العمل، لتحقيق رفاهية الموظفين.
خسائر دول مجلس التعاون الخليجي
وفيما يتعلق بدول مجلس التعاون الخليجي، يعاني نحو 15% من السكان من اضطرابات نفسية في أي عام، وفقًا لتقرير شركة برايس، ما يُلقي بظلاله على الاقتصاد، إذ تفقد دول مجلس التعاون الخليجي ما لا يقل عن 37.5 مليون يوم إنتاجي سنويًا إثر تداعيات الأمراض النفسية، بما يعادل 3.5 مليار دولار من خسائر الإنتاجية.
ومع تزايد الاضطرابات النفسية الشائعة مثل القلق والاكتئاب واضطرابات الأكل والخرف في دول مجلس التعاون الخليجي، فاقمت جائحة كوفيد-19 والتوترات الجيوسياسية الأخيرة عبء الأمراض النفسية.
ورغم تزايد التحديات، تواجه المنطقة نقصًا حادًا في المختصين بمجال الصحة النفسية، حيث لا يوجد سوى 2.85 طبيب نفسي لكل 100 ألف شخص في دول مجلس التعاون الخليجي الست، وفقًا لتقرير الشركة.
وتشمل العقبات الإضافية القدرة على تحمل التكاليف، والتغطية التأمينية، واللوائح، والبنية الأساسية، والوصمة الثقافية.
فعلى سبيل المثال، لا يسعى 60% من الأفراد الذين يعانون مشكلات الصحة النفسية في الإمارات العربية المتحدة و80% في المملكة العربية السعودية إلى العلاج، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى المحرمات الثقافية المتجذرة.
وعلى الرغم من هذه التحديات، بلغ سوق الصحة النفسية في دول مجلس التعاون الخليجي 1.9 مليار دولار العام الماضي، وفقًا لمجموعة تحليل السوق الدولية للأبحاث والاستشارات، ما يؤكد ارتفاع الطلب والرعاية الأكثر شمولاً في المنطقة.
الحواجز والاستثمار
بيد أن ثمة حواجز كبيرة تمنع الأفراد من الوصول إلى الرعاية التي يحتاجون إليها، على الرغم من الطلب المتزايد على خدمات الصحة النفسية.
ويضيف تقرير ديلويت بعدًا آخر لهذه القضية، مسلطًا الضوء على أنه حتى عندما تتاح مصادر الرفاهية، لا يستخدم أكثر من ثلثي، أي 68% من العمال الذين شملهم الاستطلاع القيمة الكاملة لهذه الموارد لأن الوصول إلى البرامج كان يستغرق وقتًا طويلاً أو مرهقًا.
لهذا، يعتبر الاستثمار في الصحة النفسية ليس مجرد مسؤولية اجتماعية؛ بل هو قرار استثماري سليم. فمن المتوقع أن يعود كل دولار يُستثمر في مجموعة شاملة من التدخلات في مجال الصحة النفسية بفوائد صحية واقتصادية تبلغ 24 دولارًا على مدى 80 عامًا وفقًا لدراسة نُشرت على موقع المعاهد الصحة الوطنية الأميركية.
ويصب هذا العائد المرتفع في صالح الاستثمار، خصوصًا في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، حيث تكون فاعلية التكلفة أكثر وضوحًا.
من جهة أخرى، يؤكد تقرير صادر عن معهد تشارترد للأفراد والتنمية في 2023 أن كفاءة المدير المباشر لها تأثير كبير في صحة الموظفين ورفاهيتهم ورضاهم الوظيفي وعزمهم على ترك العمل.
وتدعم أبحاث ديلويت هذا الرأي، إذ تبين أن الاهتمام بالصحة النفسية في مكان العمل أمر حيوي، فالمنظمات التي تعالج الأسباب الجذرية لسوء الرفاهية قادرة على دعم الإنتاجية، وتشجيع الإبداع، وتعزيز علامتها التجارية، الأمر الذي يعود بالنفع على الشركة والمجتمع ككل.
التوصيات السياسية
وللتصدي للتحديات المتعلقة بالصحة النفسية، يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تدرس اتخاذ إجراءات سياسية شاملة في عدة مجالات رئيسية.
على سبيل المثال، يمكنها تحديث وتطوير وتنفيذ استراتيجيات وطنية شاملة للصحة النفسية بهدف دمجها في أنظمة الرعاية الصحية الأولية.
يُعد الاستثمار في القوى العاملة في مجال الصحة النفسية أمرًا بالغ الأهمية، بما في ذلك تطوير برامج تدريبية لمهنيي الصحة النفسية، وتعزيز تخصصات الصحة النفسية في التعليم الطبي.
كما يمكن للمنظمات التركيز على نحو أكبر على تحسين قدرات الإدارة التنفيذية، إذ يسلط تقرير معهد تشارترد الضوء على الدور الحاسم الذي يلعبه المديرون في رضا الموظفين.
وبوسع دول مجلس التعاون الخليجي أيضًا فرض تغطية شاملة للصحة النفسية في خطط التأمين الصحي، وكذلك تطوير خدمات الصحة النفسية المجتمعية بأسعار معقولة، على النحو الذي أوصت به شركة برايس ووترهاوس كوبرز، فضلاً عن تنفيذ تقييمات منتظمة للوصمة المرتبطة بالصحة النفسية مع تطوير برامج توعية قائمة على الأدلة وحساسة ثقافيًا.
وفي مكان العمل، يوصي تقرير ديوليت المنظمات بتشجيع المحادثات المفتوحة والشفافة على جميع المستويات حول الصحة النفسية، فضلاً عن تمكين الفرق من خلق معاييرها وسلوكياتها الخاصة التي تعالج أنماط العمل الشخصية وأولويات الرفاهية.
من جهة أخرى، يمكن للحكومات وضع إرشادات لأصحاب العمل حول كيفية خلق بيئة عمل صحية. ويطالب معهد تشارترد بالنظر إلى رفاهية الفريق باعتبارها كفاءة أساسية يتعين تضمينها في مراجعات أداء القادة.
أهمية قصوى لا يمكن تجاهلها
تعتبر التكلفة الاقتصادية المترتبة على تجاهل الصحة النفسية في دول مجلس التعاون الخليجي باهظة للغاية ولا يمكن تجاهلها.
فمن خلال تنفيذ سياسات واستراتيجيات شاملة تعالج الصحة النفسية على المستوى المجتمعي وفي أماكن العمل، تستطيع دول مجلس التعاون الخليجي تحسين رفاهية سكانها وإطلاق العنان لإمكاناتها الاقتصادية الكبيرة.
لذا، حان الوقت للتحرك لاستعادة المليارات المهدرة إثر الأمراض النفسية من خلال الاستثمار الاستراتيجي والعمل السياسي، ما يمهد الطريق لمستقبل أكثر صحة وإنتاجية وازدهارًا للمنطقة.