الاستثمار الاجتماعي: قوة التغيير نحو مستقبل مستدام
معن القطامين & رولا حجاوي
يشكل الاستثمار الاجتماعي قوة التغيير نحو مستقبل مستدام حيث ان الاستثمار الاجتماعي يهدف الى الموازنة بين تحقيق عوائد اجتماعية وبيئية الى جانب كونه يحقق عوائد مالية مستدامة، وأصبح الاستثمار الاجتماعي أداة حيوية لحل التحديات العالمية مثل الفقر، تغير المناخ، والمساواة الاجتماعية، كما وانه يشكل جزءًا أساسيًا من تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (SDGs) التي تهدف إلى تحسين حياة الأفراد وتعزيز الاستدامة البيئية.
وقد شهد هذا القطاع، في السنوات الأخيرة، نموًا ملحوظًا، مما جعله واحدًا من الخيارات الجذابة للمستثمرين والمستهلكين على حد سواء، فوفقًا للتقرير السنوي للأمم المتحدة لعام 2024، فقد بلغ إجمالي الاستثمارات في السندات الاجتماعية أكثر من 150 مليار دولار في 2023، مما يعكس الاتجاه المتزايد نحو الاستثمارات التي تركز على تحقيق عوائد اجتماعية وبيئية بالإضافة إلى العوائد المالية.
في الولايات المتحدة الأمريكية، تشير التوقعات إلى أن سوق الاستثمار المستدام سيصل إلى حوالي 35 تريليون دولار بحلول عام 2025، مما يعكس التحول الكبير في اهتمامات المستثمرين نحو الاستثمارات التي تدعم الاستدامة البيئية والاجتماعية، ووفقًا لتقرير صادر عن منتدى الاستثمار المسؤول والمستدام الامريكي، فإن الأصول المستثمرة في الاستثمارات المستدامة في الولايات المتحدة بلغت 17.1 تريليون دولار في عام 2020، مما يشكل نحو 33% من إجمالي الأصول التي تديرها شركات الاستثمار في الولايات المتحدة.
على الجانب الأوروبي، تعد الدول الأوروبية من الرواد في مجال الاستثمار الاجتماعي، حيث تشهد أسواقها أعلى معدلات النمو في الاستثمارات المستدامة، على سبيل المثال، أطلق الاتحاد الأوروبي خطة التمويل المستدامة التي تهدف إلى توفير الشفافية في استراتيجيات الاستثمارات المستدامة ودعم الانتقال البيئي والاجتماعي، وعلى رأسها “خطة التمويل المستدامة” التي أعلنها الاتحاد الأوروبي في 2020، والتي تهدف إلى تشجيع الاستثمارات التي تتوافق مع أهداف الاستدامة البيئية والاجتماعية، حيث تهدف الخطة إلى تحسين الشفافية في سوق التمويل المستدام من خلال تصنيف الأنشطة الاقتصادية بحسب تأثيراتها البيئية والاجتماعية، مما يسهل توجيه الاستثمارات إلى المشاريع التي تساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. هذه الخطة تعتبر خطوة هامة نحو تحسين تدفقات رأس المال في المشاريع التي تعزز الاستدامة، وتعمل على تسريع الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون.
الاستثمار الاجتماعي في المنطفة العربية
اما في دول المنطقة العربية فهناك سوق للاستثمار الاجتماعي تقدر قيمته بنحو 2 تريليون دولار وبزيادة نمو سنوية تقدربـ17% مما يوفر مصادر جديدة لتمويل الاستثمارات المسؤولة عربياً، استجابةً لذلك هنالك توجه كبير بتغيير صورة الاقتصاد النمطي والتحفيز على تضمين الاستثمار الاجتماعي ذو الأثر المسؤول مع الاستثمارات التقليدية، ففي المملكة العربية السعودية يشكل الاستثمار الاجتماعي أداة فاعلة لتحقيق رؤية المملكة العربية السعودية2030 ،اما في الامارات العربية المتحدة فهنالك تحولاً ملحوظاً نحو الاستثمار الاجتماعي داخلياً وخارجياً بما يحقق الأهداف التنموية المستدامة.
لم يعد الاستثمار الاجتماعي مجرد أداة لتحسين المجتمعات، بل أصبح أيضًا عنصرًا مغريًا للمستثمرين، حيث تشير البيانات الحديثة إلى أن 85% من المستثمرين يفضلون الشركات التي تتبنى استراتيجيات مستدامة وتساهم في القضايا البيئية والاجتماعية، حيث يعتقدون أن هذه الشركات ستحقق عوائد أعلى على المدى الطويل، حيث بلغ حجم سوق الاستثمار المؤثر عالمياً ما يفوق 1.16 ترليون دولار في العام 2023 وذلك بحسب التقرير الصادر عن الشبكة العالمية للاستثمارات ذات الأثر.
كما أن المستهلكين أصبحوا أكثر وعيًا ويبحثون عن العلامات التجارية التي تلتزم بالمسؤولية الاجتماعية، مما يزيد من الضغط على الشركات للاستثمار في مشاريع تحقق أهدافًا اجتماعية وبيئية حقيقية، فوفقاً لدراسات حديثة فإن الوعي بين المستهلكين تجاه القضايا البيئية والاجتماعية يتزايد بشكل ملحوظ، حيث تشير الدراسات إلى أن حوالي 78% من المستهلكين يتوقعون من الشركات أن تلعب دورًا أكبر في تحقيق مستقبل مستدام.
علاوة على ذلك، فقد أظهرت البيانات أن 70% من هؤلاء المستهلكين على استعداد لدفع المزيد من الأموال مقابل المنتجات المستدامة، مما يعكس تحولًا كبيرًا في تفضيلاتهم نحو شراء السلع التي تلتزم بالمعايير البيئية والاجتماعية
على الرغم من وجود كل تلك الفرص الكامنة في الاستثمار الاجتماعي، فما زالت هنالك فجوات تمويلية في الاستثمارات الاجتماعية التي تحقق اهداف التنمية المستدامة بلغت 4 تريليون دولار سنوياً بحسب تقرير تمويل التنمية المستدامة لعام 2024 الصادر عن الأمم المتحدة،
الامر الذي يُوجب علينا مضاعفة الجهود وتوحيدها للتصدي للتحديات التي تعوق عن دمج الاستثمارات الاجتماعية مع الاقتصادات العربية ومن أبرز هذه التحديات ضبابية التشريعات وضعف المحفزات ونقص الكفاءات وصولاً الى صعوبة قياس الأثر الاجتماعي وربطها بمنظومة متكاملة قادرة على قياس الأثر الاجتماعي ضمن معايير موحدة للتقييم الدقيق، لذا من الضروري أن تتحول التعهدات في مجال الاستثمار الاجتماعي إلى التزام فعلي ، لتحقيق ذلك يجب على الشركات تبني استراتيجيات مستدامة واضحة وشاملة للتحول التدريجي الى الاستثمارات الاجتماعية، مع زيادة الشفافية والحوكمة حول تأثيراتها الاجتماعية والبيئية.
ومن أبرز الاستراتيجيات التي تشجع على هذا الالتزام:
- تطوير أدوات قياس دقيقة: مثل مؤشرات العائد الاجتماعي على الاستثمار (SROI)، التي تساعد في قياس التأثير الاجتماعي والبيئي للاستثمار، مما يسهم في توجيه الأموال نحو المشاريع الأكثر فاعلية.
- الامتثال للأطر التنظيمية العالمية: مثل خطة التمويل المستدامة في الاتحاد الأوروبي، التي توفر الأسس اللازمة للشفافية والمقارنة بين الاستثمارات المستدامة.
- تحفيز التعاون بين القطاعين العام والخاص: لتسريع تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال خطة استراتيجية وطنية مرنة قابلة على الاندماج اقليمياً ودولياً تشمل على سبيل المثال صناديق استثمار اجتماعية حكومية عبر شراكات عامة – خاصة تقدم ضمان اعلى لرأس المال.
- تصنيف الاستثمارات الاجتماعية وفئات المستثمرين: فمثلاً قد تعمل هذه الاستثمارات في المجالات الصحية او البيئة او الطاقة النظيفة وغيرها، اضافةً الى تصنيف فئات المستثمرين العاملين في الاستثمار الاجتماعي واعطائهم الأدوات والتمويل اللازمة مثل المستثمرين من الشركات الكبرى والمستثمرين الجدد من فئة الشركات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر واعطائهم تحفيزات وتمويلات بناءً على مؤشرات العائد الاجتماعي على الاستثمار.
- تشريعات محددة ومحفزة لقيمة الاستثمار الاجتماعي: عبر تفعيل خطة تدريجية للتحولات نحو الاستثمار الاجتماعي محددة بأطر قانونية وتشريعية وقيمة واضحة محددة ومؤشرات أداء مرنة، مع مراعاة وجود حوافز ضريبية وتسهيلات لجذب المستثمرين ضمن منظومة استثمار اجتماعي متكاملة تجمع جميع أصحاب المصلحة.
- التثقيف والوعي والاستشارة: عبر نشر ثقافة الاستثمار الاجتماعي والترويج لذلك داخلياً واقليمياً وعالمياً واشراك المجتمع المحلي وأصحاب المصلحة والمستثمرين المحتملين
في الختام، لتحافظ الاستثمارات الاجتماعية على دورها المحوري في تحقيق التغيير الاجتماعي والاقتصادي، يجب أن تتجاوز مرحلة التعهد إلى الالتزام الفعلي.
هذا التحول يتطلب تبني استراتيجيات شاملة وشفافة تكون قابلة للقياس وتضمن تحقيق نتائج ملموسة تؤثر بشكل إيجابي في المجتمعات وتدعم الأهداف العالمية للتنمية المستدامة، والانتقال تدريجياً الى استثمارات توجه فيها رؤوس الأموال لتحقيق اقتصادات مستدامة قادرة على التصدي للمشاكل البيئية والاجتماعية والاقتصادية ضمن منظومة متكاملة يتحد فيها القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع الثالث لمستقبل اكثر استدامة خاصةً في البلدان النامية.