كيف قد تشعل تهديدات ترامب لباول ثورة في الأسواق المشفرة؟
بقلم رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
في لحظة توتر سياسي واقتصادي غير مسبوقة، قفزت عملة البيتكوين من أدنى مستوياتها عند 74200 إلى مستوى 84400 دولار أمريكي مؤخراً، مسجّلة واحدة من أعلى قفزاتها في 2025. وفي الوقت ذاته، كانت الأسواق المالية التقليدية تترنح على وقع تهديدات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي لم يتردد في مهاجمة جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ملوّحًا بإقالته بسبب “تأخره” في خفض أسعار الفائدة. وبرأيي المفارقة هنا أن تهديدًا كهذا، كان من الممكن أن يهوي بأسواق الأسهم، لكنه ترك أثرًا معاكسًا على البيتكوين، التي صمدت وربحت. فهل نحن أمام بداية فصل جديد تعيد فيه العملة المشفرة كتابة قواعد الاقتصاد العالمي؟ وهل تتحول التهديدات السياسية إلى محفزات للسوق المشفرة؟ هذا ما سنحلّله هنا.
من وجهة نظري، أرى أن صعود البيتكوين المتزامن مع الهجوم السياسي الذي شنه ترامب على باول لم يكن محض صدفة، بل تعبير واضح عن تغيّر في سلوك المستثمرين الدوليين تجاه الأصول المشفرة. فلطالما كانت البيتكوين تُعتبر ملاذًا من التضخم والأنظمة المصرفية، ولكن الآن، ومع دخول السياسة النقدية الأمريكية في دوامة الشك، يتخذ المستثمرون خطوة استباقية وهي: التحول نحو أصول غير خاضعة للقرار السياسي، وعلى رأسها البيتكوين.
فالحديث عن إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي ليس بالأمر العابر. في الأسواق، كل كلمة من شخصية مثل ترامب تُترجم مباشرة إلى قرارات استثمارية، ومجرد التلويح بعزل باول أثار مخاوف عميقة حول استقلالية السياسة النقدية الأمريكية. وهذه المخاوف دفعت بعض المستثمرين الكبار إلى تعزيز مراكزهم في الذهب والسندات، ولكن اللافت أن جزءًا كبيرًا من رأس المال اتجه إلى البيتكوين، مما يوضح أن ثقة المستثمرين في العملات المشفرة لم تعد مجرد تجربة، بل تحوّلت إلى رهان طويل الأجل.
وفي تقديري، تجاوز البيتكوين مستوى 84,000 دولار لم يكن فقط نتيجة ضغوط ترامب على باول، بل جاء تتويجًا لتراكم مشاعر عدم اليقين في الأسواق التقليدية خلال الأشهر الماضية. فارتفاع الفائدة، التباطؤ الصناعي، النزاعات التجارية، والتوتر الجيوسياسي—جميعها عوامل تدفع رؤوس الأموال للبحث عن ملاذات بعيدة عن تأثير الحكومات. وهنا تظهر البيتكوين، لا كأصل مضاربي كما كانت تُصنّف سابقًا، بل كأداة تحوّط جادة في أعين مؤسسات كبرى.
كما أن هذا الارتفاع لا يخلو من المخاطر. فالبيتكوين، رغم ثباتها النسبي، تبقى عرضة للتصحيح المفاجئ، خاصة إذا جاءت تصريحات بنك الاحتياطي الفيدرالي المقبلة على عكس ما يريده السوق. فلو أعلن باول موقفًا متشدداً تجاه أسعار الفائدة رغم ضغوط ترامب، فقد نرى تراجعًا مؤقتًا في سعر البيتكوين. لكن هذا التراجع، في رأيي، لن يكون سوى محطة على طريق الصعود الأكبر، لأن الاتجاه العام يشير إلى تصاعد الطلب المؤسسي على العملات المشفرة، خاصة مع زيادة احتمالات التوتر السياسي والنقدي.
وبرأيي التاريخ يعيد نفسه ولكن بأدوات جديدة. ففي الماضي، كان الذهب هو الملاذ الوحيد من تقلبات السياسة والنقد، أما الآن فقد أصبح للبيتكوين هذا الدور، وبشكل أكثر تطورًا وسرعة. فبينما تخضع أسعار الذهب لتأثيرات السياسة النقدية والطلب الصناعي، يستطيع البيتكوين أن يتحرك بحرية أكبر، ويستجيب بشكل مباشر لتغيرات السياسات والخطابات.
وفي ظل انخفاض التضخم الأمريكي، كما أشار ترامب نفسه، فإن التباطؤ في خفض أسعار الفائدة يرسل رسالة مربكة للأسواق: لماذا نتمسك بمعدلات فائدة مرتفعة إذا كنا بالفعل في طريقنا إلى السيطرة على التضخم؟ هذا التضارب يدفع بالعديد من المتداولين إلى التساؤل عن منطقية قرارات الفيدرالي، مما يعزز مرة أخرى الجاذبية النسبية للأصول غير التقليدية.
أُضيف إلى ذلك أنه منذ إعلان ترامب عن الرسوم الجمركية في فبراير، شهدت البيتكوين انخفاضًا بحوالي 18%، إلا أن الهبوط لم يكن نتيجة فشل المشروع أو فقدان الثقة، بل بسبب تدفقات مؤقتة نتيجة التوترات التجارية. أما الآن، فقد بدأت هذه التدفقات في العودة تدريجياً، مع تسجيل خروج قدره 5.12 مليار دولار من صناديق ETF الفورية، وهو ما يُعتبر في هذه المرحلة بمثابة إعادة تموضع أكثر منه انسحابًا من السوق.
وفي رأيي الشخصي، إذا استمر ترامب في الضغط السياسي على باول، وإذا ارتفعت احتمالية تنفيذ تهديده، فإن البيتكوين قد تشهد موجة صعود جديدة تتجاوز فيها مستوى 90,000 دولار، خصوصًا إذا تم ربط هذا السيناريو بانخفاض فعلي في أسعار الفائدة الأمريكية في الأشهر القليلة المقبلة. والعامل الحاسم هنا سيكون توقيت الفيدرالي في الاستجابة لهذا الضغط، وكل تأخير يُنظر إليه الآن كفرصة إضافية للبيتكوين كي تُثبت جدارتها كأصل استثماري مستقل.
أما على المدى المتوسط، فإني أرجّح استمرار تحركات البيتكوين بين مستويات 80,000 و88,000 دولار خلال الأسابيع المقبلة، وفي حالة عدم وضوح قرارات الفيدرالي أو استمرار التوترات السياسية. وبمجرد إعلان حاسم من باول—سواء بتخفيض الفائدة أو رفض قاطع لذلك—فسنرى إما كسرًا صعوديًا نحو 100,000 دولار، أو تصحيحًا مؤقتًا نحو 76,000 دولار قبل استئناف المسار الصاعد.
وفي النهاية، يمكنني القول إن البيتكوين اليوم لا تُقاس فقط بالأرقام، بل بثقة الأسواق في قدرتها على الصمود وسط الفوضى. وبينما يتجادل السياسيون حول التعريفات الجمركية وأسعار الفائدة، يتخذ المستثمر الذكي قراره بالهروب من الضجيج واللجوء إلى أصل لا يعترف إلا بالعرض والطلب مثل البيتكوين.