Economy

الثورة الصناعية الرابعة

يتم الحديث كثيرا في الوقت الراهن عن ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة. ولقد مر العالم بثلاث ثورات صناعية خلال القرنين الماضيين. بدأت بوادر الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في أواخر القرن الثامن عشر مع استخدام المياه والطاقة البخارية لمكننة الإنتاج. ثم جاءت الثورة الثانية في أوائل القرن العشرين وذلك عندما قام هنري فورد بادخال خط التجميع المتحرك وبذلك فانه فتح الطريق لعصر الإنتاج الشامل. وقد ادت هاتان الثورتان الصناعيتان لانتاج ثروة هائلة تجاوزت ما تم انجازه في أي وقت مضى، وهو ما جعل الناس أكثر ثراءا وأدى الى اتساع المدن. ونحن نشهد في الواقع ثورة ثالثة مع استخدام الالكترونيات وتكنولوجيا المعلومات لأتمتة الإنتاج.

والآن يتطلع العالم إلى الثورة الرابعة. فوفقا للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي يعقد في مدينة دافوس السويسرية من كل عام، فان الثورة الصناعية الرابعة سوف تبنى على ما تم انجازه خلال الثورة الثالثة، او ما يعرف بالثورة الرقمية، التي نشهدها منذ منتصف القرن الماضي.

وتمتاز الثورة الجديدة باعتبارها مزيج من التقنيات التي ادت الى تراجع الحدود الفاصلة بين ما هو مادي وما هو رقمي وشملت حتى الجوانب البيولوجية لحياتنا. ووفقا للمنتدى الاقتصادي العالمي هناك ثلاثة أسباب للاعتقاد بان ما نشهده اليوم لا يشكل مجرد إطالة أمد للثورة الصناعية الثالثة وانما نشهد بالفعل تحولات كبيرة تنبيء بوصول الثورة الرابعة لما لهذه التحولات من سرعة ونطاق واسع وتأثير على النظم المعمول بها. في الواقع ان سرعة التغييرات التي نشهدها والاختراقات الحالية ليس لها سابقة تاريخية. وبالمقارنة مع الثورات الصناعية السابقة، فان هذه الثورة تتطور بشكل مذهل يأخذ مسارا أسيا (بضم الهمزة) بدلا من وتيرة خطية. وعلاوة على ذلك، فإن هذه التحولات تلقي بظلالها على كل الصناعات تقريبا وفي كل البلدان. ومن هنا فان اتساع وعمق هذه التغييرات تبشر بتحول كامل في  أنظمة الإنتاج والإدارة والحكم.

في واقع الأمر فان هذا التطور بحد ذاته هو الذي يثير الاهتمام، لأنه تحتم على الاقتصاديين التعلم عبر عقود كيفية ادخال عناصر جديدة في النظرية الاقتصادية في كل مرحلة من أجل الارتقاء بما يعرف بـ “الرفاه الاجتماعي”. على سبيل المثال ركزت النظرية الكلاسيكية الحديثة على تحقيق الكفاءة وتعظيم الربح في باديء الأمر. فقد كان النمو الاقتصادي على رأس سلم الاولويات، حتى اكتشف الاقتصاديون أهمية إدراج بعد آخر يتمثل بتحقيق توزيع أكثر عدالة للثروة والدخل، لان تحقيق النمو الاقتصادي بحد ذاته، على الرغم من كونه ضروريا، ليس كافيا لأنه لا يؤدي بالضرورة الى تحقيق “الرفاه الاجتماعي” المنشود. ولسوء الحظ، فقد أدى الطمع والاستخدام المفرط للموارد الطبيعية، من أجل تلبية الاحتياجات البشرية غير المحدودة، لأضرار بيئية جسيمة؛ من تسرب للنفط في مياه البحار والمحيطات الى ظاهرة التصحر وتلوث الهواء واختفاء الأنواع وظهور مشكلة أكثر خطورة وهي ظاهرة الاحتباس الحراري. ويتم الاشارة الى هذه الظواهر من قبل الاقتصاديين بأنها نتيجة مباشرة لما يسمى بـ “مأساة السلع العامة”. يتفق خبراء الاقتصاد جميعا على ضرورة اعتماد منهج التنمية المستدامة التي تنص على ضرورة ان تسير التنمية في مسارات متعددة الأبعاد تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في ان واحد.

بالرغم من التطور في النظرية الاقتصادية الا أنه تبين مرة أخرى بأن هذه الابعاد مجتمعة لا تكفي، لأن التوفيق بين أهداف التنمية المختلفة وضمان العيش في وئام بين جميع الاطراف في بيئة صحية يوجب ادخال الجانب الأخلاقي. وترتفع في هذه الأيام  الاصوات التي تنادي بأهمية الجوانب الأخلاقية للأنشطة الاقتصادية وضروة اخذها في الحسبان. ان الاتجاهات الاقتصادية الحالية التي تغذي فكرة ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة التي من شأنها أن تؤثر على جميع جوانب حياتنا، وخاصة في ضوء التطورات المتسارعة في تكنولوجيا المعرفة وتفاقم دور الآلات في حياتنا وخاصة الرجال الاليين (الروبوتات)، لا تدع مجالا للشك حول الحاجة لتحديد الأطر الأخلاقية للأنشطة الاقتصادية والصناعية.

نشرت مؤخرا مجلة هيبدو (Hebdo) السويسرية الناطقة بالفرنسية مقالا خصص لتنامي دور جوجل و فيسبوك وأبل وشركات تكنولوجيا المعرفة الأخرى في حياتنا تحت عنوان “العالم  وفقا لجوجل وفيسبوك” “Le monde selon Google et Facebook”، يسلط المقال الضوء بشكل أساسي على دور الخوارزميات في حياتنا لأنها تعتبر حجر الأساس للثورة الصناعية الرابعة، مع سؤال رئيسي “هل تحمل هذه الثورة معها الوعد بعالم أفضل تقوم فيه الريبوتات بتحرير الانسان من العمل؟”.

فالخوارزميات، وفقا للمقال، تعمل على ايجاد عالم يعتمد على الرؤية الخاصة بأولئك الذين قاموا بصياغتها، أي مبرمجوا وادي السيليكون، وهي بذلك تعتبر أداة تخدم الأهداف الخاصة بهم. حتى أن الخوارزميات تعتبر عاملا مؤثرا في الساحة السياسية. وذهب المقال لاعتبار أن انتصار دونالد ترامب هو مثال مباشر لهذا الدور. وقد تم القاء اللائمة على الخوارزميات التي خلقت بيئة منحازة بحيث تم تزويد المستخدمين (اي رواد الانترنت) بالمعلومات وفقا لتفضيلاتهم وهو ما حجب عنهم معلومات اخرى وحرمهم من الاطلاع على الصورة كاملة*. اختتمت المجلة مقالها بالتأكيد على أن “القضية المطروحة للنقاش ليست فنية، ولكنها أخلاقية وسياسية واقتصادية وفلسفية في ان واحد.”

وبالنظر إلى الامكانات المترتبة على الثورة الصناعية الرابعة خاصة ما يتعلق بافساح المجال لاطلاق العنان لخيالنا وتفكيرنا، فإن الابداع الذهني سيكون هو المفتاح لهذه الثورة على اعتبار ان جهة التنفيذ هي الالة التي ستشكل الجيل الجديد من “الرقيق” والتي سوف تكون قادرة على تنفيذ أوامرنا بضغطة اصبع. وذلك أن هذه الثورة من الفترض أن تساعد المنتجين للوصول الى المعلومات الخاصة بالطلب من قبل المستهلكين وبالعكس، أي أن يتوفر للمستهلكين معلومات كاملة عن المنتجات من حيث المكونات والنوعية والأسعار والجوانب الأخلاقية لعملية الإنتاج من خلال نقرة واحدة على رمز المنتج (كود بار).

لذلك، ليس هناك تكنولوجيا جيدة وأخرى سيئة، والسؤال هو كيف يمكن أن نوجه هذه الثورة في الطريق الصحيح من أجل خدمة احتياجاتنا وتحقيق الرفاه الاجتماعي. في الواقع أن الإجابة على هذا السؤال تملي علينا الرد على الأسئلة الأساسية التي يعمل علم الاقتصاد على دراستها: هل ستمكن هذه الثورة من تقديم اجوبة أفضل واختيار اكثر عقلانية ما ينبغي إنتاجه والكيفية التي يتم بها الانتاج ولمن يتم الانتاج؟، والأهم من ذلك هو كيفية تقاسم الثروة الناتجة عن هذه الثورة الصناعية الجديدة. والسؤال المطروح هو اذا كانت هذه الثورة ستمكن من توزيع الأدوار إلى الأجهزة والأنظمة الإلكترونية من أجل تسهيل الإنتاج والتوزيع ومراقبة الجودة والكفاءة، فهل ستؤدي بالفعل الى تحرر الانسان من العمل في نهاية المطاف؟ أم أنها سوف تكون أداة قوية نحو دكتاتورية جديدة تتسلط بموجبها الآلة على البشر؟.

ان التصور الأول لا يعني أنه لن يكون للانسان أي دور في الحياة الاقتصادية، ولكن الأمر يتعلق باستخدام الالة للقيام بالمهام التنفيذية لتحرير مزيد من الوقت لبني البشر للقيام بالأنشطة الأساسية التي تميز الانسان عن الالات كقضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء والتأمل والتفكير.

في الواقع فان جانبا من هذه الافكار هو مستوحى من قصة قصيرة عن سائق سيارة أجرة في لندن ووجه بسؤال يتعلق بالخطر الذي يتهدد وظيفته كسائق تكسي من قبل التكنولوجيا الجديدة المتمثلة بالرجال الاليين (الروبوت)، عندما سئل عما اذا كان يعتقد انه يجب البحث عن وظيفة أخرى في حال إدخال الروبوت للخدمة في سيارة الأجرة، فكان الجواب “في ذلك الحين سوف أعتني بوالداي.” بالرغم من أن اجابته بسيطة لمسألة تعد معقدة، الا أن هذه الإجابة الغريزية قد تحتوي في الواقع على الحل المناسب. فإذا كان بمقدور الآلات أن تضطلع بكل الوظائف التنفيذية، اذا فأي وظيفة للانسان ستكون أعظم من كونه انسانا، فالروبوت انما هو في الواقع آلة غير قادرة على التحلي بالصفات البشرية الأساسية كالعاطفة والحنان ومسائل الشعور والوجدان.

وعلى الرغم من الدور الهام للثورة الرقمية الحالية، التي تسمح للثورة الصناعية الرابعة بأن تكون شاملة، الا أنني أخشى أن شيئا لن يتغير من حيث القيادة. لأننا بحاجة لادماج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل رئيسي وكذلك المستهلكين والأفراد في هذه العملية ليكون لهم دور مباشر في إعادة تشكيل اقتصادنا، فالنموذج الحالي يقوم على الشركات متعددة الجنسيات والشركات الكبرى التي تمتلك القرارت التي تنطوي على أثر مباشر على الجوانب المتعددة لحياتنا اليومية.

ان الثورة الصناعية الرابعة كما تم الحديث عنها سابقا تؤكد الحاجة إلى تطبيق البعد الأخلاقي جنبا إلى جنب مع النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، وبذلك سوف يتم استعادة كرامة الانسان باعتباره هو سيد الآلة وليس العكس.

* المقصود هنا بان شركات المعلوماتية تقوم بصياغة الخوارزميات التي تعمل على الاحتفاظ بتفضيلات المستخدم ومن ثم تقوم بعرض المحتوى لكل مستخدم بناءا على الذاكرة المسجلة حول تفضيلاته، وهو ما يؤدي في الواقع لان يصبح المستخدم رهينة لهذه الخوارزميات التي تحجب عنه اية معلومات مغايرة لتفضيلاته. وقد تم اجراء تجربة على حسابي شخصين على الفيسبوك يؤيد كل منهما حزبا سياسيا مغايرا للاخر، بحيث قام كل منهما باستخدام الحساب الشخصي للاخر ليكتشف كل منهما بأن المحتوى الذي اصبح يعرض هو مغاير تماما لقناعاته السياسية ولما اعتاد ان يعرض عليه عند استخدام حسابه الشخصي الفعلي.

– See more at: http://www.saentrepreneurs.ch/index.php/culture-and-language-ar/item/285-2017-01-28-18-53-32#sthash.q1ypAdGI.dpuf

Click to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

To Top