الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل عالمنا
يشهد العالم اليوم طفرة غير مسبوقة في مجال التكنولوجيا الرقمية، تقودها ثورة الذكاء الاصطناعي، وخصوصا الذكاء الاصطناعي التوليدي. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أدوات تقنية تسهّل حياتنا اليومية أو تحسّن كفاءة القطاعات الاقتصادية، بل بات أشبه بسلطة جديدة قادرة على إعادة صياغة أنماط التفكير، وتشكيل المجتمعات، وتوجيه الثقافة وحتى السياسات العالمية.
هذا التحول يثير تساؤلات عميقة حول خلفياته الفلسفية والمعرفية والأيديولوجية، وهو ما تناوله الباحث خالد قطب في دراسة حديثة نشرت في مجلة تبيُّن، حيث دعا إلى مقاربة ناقدة لهذه التكنولوجيا التي توصف أحيانا بأنها "الثورة الصناعية الرابعة".
في هذا التقرير، نحاول تبسيط أبرز ما جاء في هذه الدراسة، وتسليط الضوء على الأسئلة الكبرى التي يطرحها الذكاء الاصطناعي: هل هو مجرد أداة؟ أم أنه خطاب وأيديولوجيا خفية تعيد صياغة علاقتنا بالمعرفة وبأنفسنا وبالعالم من حولنا؟
من الخيال العلمي إلى واقع يغيّر العالم
قبل سنوات قليلة فقط، كان الحديث عن "ذكاء اصطناعي فائق" يبدو أقرب إلى روايات الخيال العلمي. لكن اليوم، ومع التطورات المتسارعة في تقنيات التعلم العميق والخوارزميات الذكية، أصبحنا نعيش بالفعل في زمنٍ تُدار فيه المستشفيات وشركات الطيران والمحاكم بأنظمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
هذه الأنظمة لا تكتفي بتحليل البيانات بسرعة ودقة، بل بدأت تدخل في تفاصيل حياتنا اليومية: من اختيار الأفلام التي نشاهدها على منصات البث، إلى قرارات البنوك بشأن القروض، بل وحتى في التوظيف والتسويق والسياسة.
ومع ذلك، يذكّرنا د. قطب بأن هذا الانتشار لا يعني أن الذكاء الاصطناعي محايد أو موضوعي بالكامل. بل على العكس، خلف كل خوارزمية تقف مجموعة من المصممين والمبرمجين، يحملون رؤى وأيديولوجيات قد تترسخ في قلب التكنولوجيا ذاتها.
المعرفة تحت المجهر: من يملك الحقيقة؟
واحدة من أبرز القضايا التي يثيرها الذكاء الاصطناعي هي طبيعة المعرفة نفسها. فمنذ فلاسفة اليونان وحتى عصر التنوير، كان الإنسان يُنظر إليه على أنه "الذات العارفة" التي تنتج وتملك المعرفة. لكن الذكاء الاصطناعي قلب هذه المعادلة رأسًا على عقب.
الآلة اليوم لا تكتفي باستقبال المعرفة، بل تنتجها وتعيد تشكيلها. فهي تكتب النصوص، وتلخص الكتب، وتُنتج صورًا وأفلامًا، بل وتبتكر موسيقى. السؤال هنا: هل هذه المعرفة "أصلية"؟ ومن يملكها؟ الإنسان أم الآلة؟
يرى د. قطب أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن النظر إليه كوسيلة بريئة لنقل المعرفة، بل كـ"سلطة معرفية" جديدة تعيد تعريف علاقتنا بالحقيقة. هذه السلطة قد تُفضي إلى تحولات جذرية في مفهومنا عن التعليم، البحث العلمي، والإبداع.
الأبعاد الأيديولوجية: تكنولوجيا ليست بريئة
عندما ننظر بعمق إلى ممارسات الشركات العملاقة التي تطور هذه الأنظمة – مثل غوغل، مايكروسوفت، ميتا وغيرها – ندرك أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مشروع علمي. إنه أيضًا مشروع اقتصادي وسياسي، محمّل بأيديولوجيا معينة.
على سبيل المثال، أثبتت التجارب أن بعض الخوارزميات تحمل تحيزات واضحة ضد النساء أو الأقليات. نظام توظيف اعتمدته إحدى الشركات الكبرى استبعد النساء من الترشيحات لوظائف تقنية فقط لأن بياناته السابقة كانت منحازة لصالح الرجال. كذلك، ظهرت مشكلات في أنظمة التعرف على الصور، التي صنفت أحيانًا أشخاصًا سود البشرة بطرق مهينة.
هذه الأمثلة تكشف أن التكنولوجيا قد تعكس التحيزات الاجتماعية والثقافية الموجودة أصلًا، لكنها في الوقت نفسه تساهم في ترسيخها وإعادة إنتاجها على نطاق واسع. ومن هنا، فإن الذكاء الاصطناعي ليس محايدًا، بل هو جزء من خطاب أيديولوجي يحدد من يُقصى ومن يُعترف به.
الذكاء الاصطناعي كخطاب
إحدى الأفكار المثيرة التي يطرحها د. قطب هي النظر إلى الذكاء الاصطناعي كـ"خطاب" بالمعنى الفلسفي، أي منظومة رمزية تنتج المعاني وتوجّهها. فالذكاء الاصطناعي لا يقتصر على تشغيل الآلات، بل يصوغ طرقًا جديدة لفهم العالم والتفاعل معه.
اللغة التي يستخدمها هذا الخطاب ليست فقط الكلمات، بل أيضًا الأرقام والرموز والخوارزميات. ومن خلال هذه اللغة، تُدار عمليات ضخمة من المراقبة، والإدارة، وصناعة الرأي العام، وحتى تشكيل الهوية الفردية.
بمعنى آخر، نحن لا نتعامل مع آلة صامتة، بل مع "خطاب رقمي" يمارس نوعًا من السلطة الناعمة على عقولنا وسلوكنا، من خلال التوصيات، التصنيفات، والتصاميم الرقمية التي تملأ حياتنا.
بين السيطرة والتحرر: مفترق طرق حضاري
تفتح هذه المقاربة النقدية بابًا واسعًا للتفكير في مستقبلنا: هل سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى مزيد من العدالة والابتكار والرفاهية؟ أم أنه سيصبح أداة للسيطرة الاقتصادية والسياسية، تعمّق الفوارق بين من يملكون التكنولوجيا ومن يُحرمون منها؟
الحقيقة أن السينارهيْن قائمين معًا. فالتكنولوجيا ذاتها يمكن أن تُستخدم لعلاج الأمراض وتطوير التعليم، أو يمكن أن تُستخدم للتجسس، وصناعة الأسلحة، وتعزيز الهيمنة الاقتصادية.
ولهذا، يدعو الباحث إلى النظر للذكاء الاصطناعي باعتباره ظاهرة شاملة، لا تقنية فحسب، بل معرفية وثقافية وأيديولوجية. ويتطلب فهمه الحقيقي أن نضعه داخل شبكة أوسع تشمل الإنسان والمجتمع والاقتصاد والسياسة والثقافة.
نحو ذكاء اصطناعي مسؤول
أمام هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى ما يُسمى بـ"الذكاء الاصطناعي المسؤول". وهو مفهوم يشير إلى تطوير هذه التكنولوجيا ضمن أطر أخلاقية وقانونية تضمن الشفافية، وتقلل من التحيزات، وتحمي حقوق الأفراد والمجتمعات.
لكن تحقيق هذا الهدف ليس مهمة سهلة. فهو يتطلب تعاونًا عالميًا بين الأكاديميين، والمشرعين، والشركات، والمجتمع المدني. كما يتطلب وعيًا فرديًا متزايدًا من المستخدمين، حتى لا يتحولوا إلى مجرد بيانات خام في خدمة أنظمة اقتصادية كبرى.
ختاماً! لقد غدا الذكاء الاصطناعي اليوم قوة لا يمكن تجاهلها. لكنه ليس قوة بريئة أو محايدة. إنه – كما يوضح خالد قطب – سلطة معرفية وأيديولوجية، قادرة على إعادة تشكيل معارفنا وثقافتنا ومجتمعاتنا بطرق عميقة.
ومن هنا، فإن السؤال لم يعد: "هل نستخدم الذكاء الاصطناعي؟" بل: "كيف نستخدمه؟ ولصالح من؟".
إجابة هذا السؤال ستحدد ملامح المستقبل الذي ينتظرنا جميعًا.
المصدر: خالد قطب، تفكيك الخلفيات الإبستيمولوجية والأيديولوجية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: مقاربة ناقدة، مجلة تبيُّن، العدد 53، صيف 2025.