تعاني الأراضي الفلسطينية من تحديات اجتماعية واقتصادية متزايدة، وبخاصة بعد جائحة كورونا وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي أعاقت الخطط والسياسات الحكومية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة بالتزامن مع الارتفاع الكبير في مستويات الفقر وانعدام الأمن الغذائي وانتشار البطالة الكبير، خاص في قطاع غزة الذي يشهد حصار مشدد من الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 2007 . تشير آخر الإحصائيات إلى أن معدلات البطالة في فلسطين ما زالت ضمن مستويات مرتفعة على الرغم من انخفاضها بمقدار نقطتين مئويتين عن العام 2021 ، لتصل إلى 24.4 % مع نهاية العام 2022 ( 40.4 % عند الإناث، و 45.3 % في قطاع غزة). في ذات السياق، أشارت نتائج مسح الإنفاق والاستهلاك للأسر في فلسطين العام 2017 الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إلى أن نسبة الفقر بين الأفراد في فلسطين قد بلغت 29.2 %، حسب مستويات الاستهلاك، بواقع 13.9 % في الضفة الغربية، و 53 % في قطاع غزة. فيما أدت الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا إلى زيادة أعداد الفقراء بشكل كبير، مما نتج عنه ظهور أعداد كبيرة من الفقراء الجدد”.
استجابت الحكومة الفلسطينية، بشكل إيجابي وقوي، من أجل توطين أهداف التنمية المستدامة ومؤشراتها التي اعتمدت من قبل الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2015 . على الرغم من التقدم الملحوظ في بعض الأهداف والمؤشرات )الصحة، والتعليم، والمياه، والطاقة، إلا إن العديد من المؤشرات الأخرى الرئيسية شهدت تراجع حاد مثل الهدفين الأول والثاني المتعلقين بالفقر والأمن الغذائي. لذلك، تحاول المؤسسات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، من خلال ممارسات الريادة الاجتماعية أن تلعب دور كبير في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة، وسد جزء من الفجوة في الخدمات الأساسية.
على الرغم من حداثة مفهوم الريادة الاجتماعية، ومحدودية الدراسات التي تطرقت إلى أهميتها ودورها في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، فإنها وأسوة بالتجارب الدولية والإقليمية، من الممكن أن تلعب دور محوري في التقليل من التدهور الحاصل في أهداف التنمية المستدامة، وبخاصة المؤشرات التي شهدت تراجع كبير خلال العامين الماضيين. لذلك تهدف هذه الدراسة، بشكل رئيسي، إلى التعرف على واقع وطبيعة أنشطة الريادة الاجتماعية في فلسطين، والأشكال المختلفة للمؤسسات العاملة في هذا المجال، ودورها في المساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وبخاصة المرتبطة بأبرز التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها الأراضي الفلسطينية، والمؤشرات التي شهدت تراجع كبير خلال العامين الماضيين. كما تهدف هذه الدراسة إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الفرعية الأخرى مثل تحديد الأشكال القانونية للمؤسسات التي تمارس أنشطة الريادة الاجتماعية، وتحديد الإطار القانوني والتنظيمي الناظم لعمل هذه المؤسسات، وتحديد الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للريادة الاجتماعية في فلسطين، والعوائق والتحديات التي تواجه المؤسسات في ممارسة أنشطة الريادة الاجتماعية والتي تحد من تأثيرها على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
في الجانب القانوني والتنظيمي، أظهرت الدراسة عدم وجود أي إطار قانوني ناظم للريادة الاجتماعية أو للشركات الاجتماعية التي تعتبر من الأشكال القانونية المرادفة للريادة الاجتماعية، كما أن هناك غياب شبه كامل لمفهوم الريادة الاجتماعية لدى الجهات الحكومية ذات العلاقة، ولم يتم الإشارة له في الخطط والاستراتيجيات العامة. على سبيل المثال، لم تتطرق التقارير العامة المتعلقة برصد التقدم المحرز في أهداف التنمية المستدامة بأي شكل من الأشكال إلى ممارسات الريادة الاجتماعية ودورها في تعزيز السعي نحو تحقيق هذه الأهداف. في ذات الوقت، لا يوجد هناك شكل قانوني موحد للشركات التي تمارس الريادة الاجتماعية، فهي تأخذ أشكا ا عديدة أبرزها المنظمات غير الحكومية، التعاونيات، الجمعيات الخيرية، والشركات غير الربحية.
أجمعت مؤسسات الريادة الاجتماعية على مجموعة من التحديات القانونية والتنظيمية والتي تمثلت بشكل رئيسي في عدم وجود شكل قانوني مناسب لتسجيل مؤسسات الريادة الاجتماعية، وضعف البيئة الناظمة لأنشطة الريادة الاجتماعية، وعدم وجود مرجعية حكومية ناظمة لأنشطة الريادة الاجتماعية والمؤسسات العاملة في هذا المجال، وضعف التنسيق والشراكة ما بين هذه المؤسسات ونظيراتها مع أصحاب العلاقة في القطاع العام. في ذات الوقت، ومع محدودية وتذبذب الدعم الدولي الذي تعتمد عليه أغلب الأشكال القانونية للمؤسسات التي تمارس الريادة الاجتماعية، فإن الشركات غير الربحية تعتبر نموذج فعا ا في تعزيز ممارسات الريادة الاجتماعية. إلا أن هذا النموذج يصطدم بالقيود التي وضعتها الحكومة على عمل الشركات غير الربحية في القرار بقانون رقم (8) لعام 2015 الذي جاء بنظام معدل لنظام الشركات غير الربحية رقم (3) لسنة 2010 ، من خلال تعديل المادة (11) والمتعلقة بحق الشركات غير الربحية بالحصول على التمويل، ومن ثم لاحقا تعليق العمل بالقانون في العام 2017 .
تعاني مؤسسات الريادة الاجتماعية من ضعف الاستدامة المالية من المصادر الذاتية والأنشطة التجارية، ما يدفعها إلى الاعتماد الكبير على المنح والمساعدات والتبرعات الخارجية والعقود الاستشارية والمشاريع الممولة في تمويل أنشطتها الريادية، وعلى الرغم من الوعي الكبير لدى المستطلعين بأهمية الريادة الاجتماعية في تحقق الاستدامة، فإنه من الواضح أن هناك فجوة في فهم نموذج الأعمال الخاص بكل من الشركات غير الربحية والشركات الاجتماعية، والدور الذي من الممكن أن تلعبه في تحقيق الاستدامة المالية. لذلك من أجل تعزيز أنشطة الريادة الاجتماعية في فلسطين وضمان استدامتها، فإنه لا بد من تعزيز الأشكال القانونية الأكثر استجابة للريادة الاجتماعية والدفع بها للأمام بعيد عن الاعتماد شبه الكلي على التمويل الخارجي. هذا يتطلب إدراج الشركات الاجتماعية ضمن الأطر القانونية والتنظيمية ذات العلاقة، وإعادة العمل بقانون الشركات غير الربحية وإعادة النظر بالقرار بقانون رقم (8) لعام 2015 والذي يحد بشكل كبير من إمكانية حصولها على تمويل خارجي.
أما من ناحية أنشطة الريادة الاجتماعية، فقد تتباين الدوافع من وراء ممارستها في فلسطين؛ فقد جاء الجانب الاجتماعي والبيئي على رأس سلم أولويات المؤسسات التي تمارس الريادة الاجتماعية، في حين جاء البعد الاقتصادي ثاني وبفارق كبير. يعتبر التمكين الاجتماعي للفئات المهمشة على سلم الأهداف الاجتماعية المرتبطة بأنشطة الريادة الاجتماعية في فلسطين، يليها كل من الحد من الفقر، وتوفير الحماية الاجتماعية، وبناء القدرات الخاصة بالنساء والشباب، وتعزيز العمل التطوعي. أي إن أنشطة الريادة الاجتماعية تحاول الاستجابة للفجوة الكبيرة في أنظمة الحماية الاجتماعية، خاصة وأن غالبية مؤسسات الريادة الاجتماعية تعتمد على الدعم والمساعدات الخارجية كما أشرنا سابقا. لذلك، هناك حاجة لتعزيز الوعي بالبعد الاقتصادي للريادة الاجتماعية خاصة لدى القطاع الخاص، وذلك من أجل تحفيز القطاع الخاص والرياديين من أجل الاستثمار في مثل هذه الأنشطة الهامة التي لها بعد اجتماعي وبيئي كبير، وإعادة الاعتبار لمفهوم العمل التطوعي وممارساته ضمن المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، من أجل التقليل من الأعباء المالية ( المرتبطة بالأجور بشكل رئيسي ) على المؤسسات التي تمارس الريادة الاجتماعية وتعزيز الاستدامة المالية لديها. كما من المهم أن تعمل مؤسسات الريادة الاجتماعية على تعزيز أنشطتها في مجال الريادة والبحث عن حلول ابتكارية للتحديات الاجتماعية من خلال تبني نماذج أعمال اقتصادية تمكنها من تحقيق عائد مادي يساهم في تعزيز الاستدامة المالية لديها وتقليل الاعتماد الكبير على الدعم الخارجي الذي شهد انخفاض وتذبذب كبير خلال الأعوام الأخيرة. بالإضافة إلى تعزيز دور الجامعات من خلال تضمينها لمفاهيم الريادة الاجتماعية في المناهج التعليمية والتطبيقات العملية ومشاريع التخرج في مختلف التخصصات، وتوفير الدعم المالي والفني من المؤسسات الحكومية ذات العلاقة لتعزيز أنشطة الريادة الاجتماعية سواء داخل مؤسسات الريادة الاجتماعي أو من خلال الجامعات أو حاضنات الأعمال وغيرها من عناصر البيئة التمكينية.
وجدت الدراسة أنه على الرغم من حداثة مفهوم الريادة الاجتماعية، ومحدودية المؤسسات التي تنشط في هذا المجال، وضعف البيئة التمكينية المحيطة بها، إلا أنها من الممكن أن تلعب دور محوري في التقليل من التدهور الحاصل في أهداف التنمية المستدامة خاصة على صعيد المؤشرات التي شهدت تراجع كبير خلال العامين الماضيين، وهو ما لم تستطع ريادة الأعمال في فلسطين ببعدها المالي والاقتصادي الواضح الاستجابة له خلال العقدين الماضيين على الرغم من الرعاية والدعم الكبير الذي تلقته المؤسسات العاملة في هذا المجال. الغالبية المطلقة من المؤسسات التي تمارس أنشطة الريادة الاجتماعية في فلسطين تسعى أيض إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة، ومعظم المؤسسات التي تمارس أنشطة الريادة الاجتماعية والتي شملها الاستطلاع تعمل في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتي تتقاطع أنشطتها مع عدد كبير من أهداف التنمية المستدامة ذات العلاقة.
أما بالنسبة لأهداف التنمية المستدامة ذات الأولوية لدى المؤسسات العاملة في مجال الريادة الاجتماعية، فجاء القضاء على الفقر (الهدف الأول) في المرتبة الأولى كهدف أول تسعى المؤسسات المعنية إلى تحقيقه خاصة الشركات غير الربحية، والجمعيات التعاونية، والمنظمات غير الحكومية. يليها كل من العمل اللائق والنمو الاقتصادي (الهدف الثامن)، من ثم المساواة بين الجنسين (الهدف الخامس)، الصحة الجيدة (الهدف الثالث)، والتعليم الجيد (الهدف الرابع). لم تحظى الأهداف المتعلقة بالطاقة النظيفة (الهدف السابع)، والعمل المناخي (الهدف الثالث عشر)، والحياة على الأرض(الهدف الخامس عشر)، والحياة تحت الماء (الهدف الرابع عشر)، والاستهلاك والإنتاج المسؤولان (الهدف الثاني عشر) بالاهتمام الكافي، فهي ليست على أجندة عمل غالبية المؤسسات المستطلعة.
يعتبر عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي التحدي الأكبر الذي يحد من قدرة مؤسسات الريادة الاجتماعية على الاستجابة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ تفرض تحديات الاحتلال نفسها على جميع أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، بشكل خاص على الهدف الأول والثاني والثالث والسادس والسابع والثامن والتاسع. كما يعتبر ضعف الإمكانات المادية أيضا من أبرز التحديات التي تواجهها مؤسسات الريادة الاجتماعية للاستجابة لأهداف التنمية المستدامة، خاصة مع ضعف الحوافز الحكومية وصعوبة الوصول إلى التمويل الخارجي. كذلك الحال بالنسبة إلى نقص المهارات والخبرات لدى المؤسسات، والمتعلقة بالعديد من مجالات عمل أهداف التنمية المستدامة، والتي تعتبر من التحديات التي تواجهها مؤسسات الريادة الاجتماعية.
لذلك من المهم أن تضع مؤسسات الريادة الاجتماعية تحقيق أهداف التنمية المستدامة على سلم أولويات العمل لديها والإشارة لها بشكل واضح في خططها الاستراتيجية، والذي من شأنه أن يساهم بشكل كبير في تحفيزها على الاستجابة والعمل نحو تحقيق هذه الأهداف. كما أوصت الدراسة بضرورة الإشارة الواضحة إلى الدور الذي من الممكن أن تلعبه أنشطة ومؤسسات الريادة الاجتماعية في الخطط والتقارير المتعلقة بأهداف التنمية المستدامة في فلسطين، ونشر الوعي لدى أعضاء الفريق الوطني لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بأنشطة الريادة الاجتماعية التي من الممكن أن تساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ضمن مجال عمل كل وزارة أو هيئة حكومية. كما أن هناك حاجة إلى تعزيز الوعي لدى مؤسسات الريادة الاجتماعية بأهمية الاستجابة أيضا لأهداف التنمية المستدامة ذات البعد البيئي. هذا يتطلب شراكة ودعم من الجهات الحكومية ذات العلاقة، وتعزيز للشراكة والتعاون ما بين مؤسسات الريادة الاجتماعية ومختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية والخاصة من أجل تظافر الجهود وتسخير الإمكانيات المحدودة في سبيل السعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. كما يجب تضمين أهداف التنمية المستدامة في استراتيجيات وخطط عمل القطاع الخاص، وربطها بالريادة الاجتماعية من خلال تفعيل دور المسؤولية الاجتماعية والبيئية، وتضمينها أيض في برامج التعليم المدرسي والجامعي لنشر الوعي حول أهداف التنمية المستدامة.